تشكيل حكومة منفى وسلطات الدعم السريع- تعقيد الأزمة السودانية

تتصاعد الأصوات مجددًا، مطالبةً بتشكيل حكومة في المنفى، صاعدة من بين صفوف قوى منضوية تحت مظلة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية السودانية، المعروفة اختصارًا بـ (تقدم)، والتي يترأسها عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء السابق الذي قدم استقالته.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الطرح قد سبق وأن نوقش من قبل بعض الأعضاء داخل "تقدم" خلال اجتماعات هيئتها القيادية التي عُقدت في مدينة عنتيبي في الأسبوع الفائت، إلا أنه لم يلقَ قبولاً واسعًا، بل قوبل بمعارضة من بعض القوى داخل التنسيقية ذاتها. ونتيجة لذلك، خلا البيان الختامي للاجتماعات من أي إشارة إليه ضمن نتائج ما تم الاتفاق عليه، الأمر الذي اعتبره المحللون في ذلك الوقت استبعادًا لهذا الاقتراح.
إلا أنه، وبشكل مفاجئ، عادت الدعوات لتشكيل حكومة منفى لتطفو على السطح هذا الأسبوع.
ويبدو أن التطورات العسكرية الميدانية قد دفعت بهذا المقترح إلى دائرة الضوء مرة أخرى، حيث تشير التقارير الواردة في هذا الشأن إلى تقدم ملحوظ وسريع لقوات الجيش السوداني والقوات المتحالفة معه في مختلف جبهات القتال مع قوات الدعم السريع، خاصة في المناطق التي تشهد مواجهات حادة مثل الفاشر ونيالا والجنينة والخرطوم بحري وولاية الجزيرة، وهي المناطق الأكثر اشتعالاً؛ حيث تتقدم القوات الحكومية من ثلاث اتجاهات، بهدف محاصرة قوات الدعم السريع المتمركزة بكثافة في مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، منذ شهر ديسمبر/كانون الأول من العام المنصرم.
تزامنًا مع مقترح تشكيل حكومة المنفى، ظهر مقترح آخر يدعو إلى تشكيل سلطات إدارية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع. هذا المقترح قدمه عدد من المستشارين التابعين لقوات الدعم السريع المتحالفة مع تنسيقية (تقدم)، وقد تم بالفعل تطبيقه في بعض المناطق في نيالا والجنينة وبعض القرى والمدن في ولاية الجزيرة.
إلا أن هذه السلطات تفتقر إلى الفاعلية وتستند فقط إلى شرعية الأمر الواقع، ويقوم بإدارتها عناصر عسكرية تابعة لقوات الدعم السريع، غير مؤهلة لتولي مسؤوليات العمل الإداري، فضلاً عن تورط عناصرها في انتهاكات وعمليات قتل وتعذيب واعتقال بحق المدنيين في هذه المناطق، بالإضافة إلى التجنيد القسري للشباب والاستيلاء على ممتلكات السكان المحليين وإجبارهم على ترك منازلهم، وتحويلها إلى ثكنات عسكرية ومخازن للأسلحة.
إن تجدد الدعوة لهذين المقترحين يتزامن مع تصاعد الحديث عن مفاوضات مرتقبة بين قوات الدعم السريع والجيش، على خلفية "اتفاق جدة" الذي تم توقيعه في الحادي عشر من شهر مايو/أيار عام 2023، والذي ألزم قوات الدعم السريع بالانسحاب من الأعيان المدنية ومنازل المواطنين والتجمع في نقاط محددة مسبقًا، وهو ما لم تلتزم به قوات الدعم السريع، مما جعل الاتفاق معلقًا وفي حكم المجمد، وتحول إلى عقبة تعرقل كافة المحاولات اللاحقة لتسوية الأزمة، حيث تصر الحكومة السودانية على تنفيذ قوات الدعم السريع لهذا التعهد كشرط أساسي للدخول في أي صيغة تسوية.
يبدو المشهد الراهن بالغ التعقيد، والخيارات المتاحة لقوات الدعم السريع محدودة للغاية، نظرًا لوضعها العسكري الحرج. فالقبول بتنفيذ اتفاق جدة يبدو أمرًا صعبًا بالنسبة لقوات الدعم السريع في هذا التوقيت، وذلك لسببين رئيسيين:
- أولاً: إن الحكومة السودانية تصر على تطبيق اتفاق جدة فقط على المناطق والأعيان المدنية التي كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع عند توقيع الاتفاق (قبل ما يزيد عن عام ونصف)، مع استثناء المناطق التي سيطرت عليها القوات لاحقًا، وهو ما يعني عدم شمول هذه المناطق في الاتفاق، الأمر الذي تعتبره قوات الدعم السريع خسارة فادحة لمكاسبها الميدانية التي حققتها خلال الحرب.
- ثانيًا: يتمثل في الوضع الميداني المتدهور لقوات الدعم السريع، حيث أن قبولها بتنفيذ اتفاق جدة وهي في هذه الحالة بمثابة استسلام وإذعان يشبه الهزيمة.
وثمة تعقيد إضافي يفرض قيودًا أخرى على خطوات الحكومة السودانية نحو القبول بخيار التفاوض مع قوات الدعم السريع وجناحها المدني "تقدم"، ألا وهو تنامي تيار جماهيري شعبي متزايد يدعو إلى خيار الحسم العسكري على الأرض، ويرى أن أي توجه نحو التفاوض والتسوية بمثابة طوق نجاة لقوات الدعم السريع، ينقذها من هزيمة وشيكة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التيار يرى أن التفاوض يعيد قوات الدعم السريع وحليفها المدني إلى المشهد السياسي والحياة العامة في السودان، بعد كل الانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها بحق المدنيين، والدمار الذي ألحقته بالبنية التحتية للدولة، والذي طال حتى الموروث التاريخي القومي للسودان، والشرخ الاجتماعي العميق الذي خلفته هذه الجرائم، مما أوجد حاجزًا نفسيًا كبيرًا يصعب معه القبول بأي دور محتمل لهذا التحالف في مستقبل الحياة العامة في السودان.
في ضوء ما سبق، فإن الدعوات المطالبة بتشكيل حكومة منفى تزيد من تعقيد الأمور، مما يجعل التوصل إلى حل سلمي للأزمة احتمالًا بعيد المنال؛ فتشكيل حكومة منفى يعني سحب الشرعية من الحكومة السودانية وإغلاق الباب أمام أي مساعٍ للحل التفاوضي.
وكما ذكرنا سابقًا، فقد قوبلت هذه الدعوة بالرفض حتى من بعض مكونات تنسيقية "تقدم"، التي ترى أن تشكيل حكومة منفى في هذا التوقيت يمثل مغامرة غير مأمونة العواقب، وستواجه بتحدٍّ كبير، وهو الحصول على الاعتراف الدولي في ظل وجود حكومة معترف بها دوليًا بالفعل وتسيطر على معظم أراضي الدولة.
كما أن الاعتراف الدولي بحكومة كهذه يعني عدم وصول المساعدات الإنسانية الدولية إلى مستحقيها، حيث لا تمتلك حكومة منفية القدرة على تقديم التسهيلات والدعم اللوجستي اللازم لمنظمات الإغاثة.
وثمة مخاوف أيضًا من أن يؤدي تشكيل حكومة منفى في نهاية المطاف إلى تقسيم البلاد، وبالتالي حدوث فوضى غير مرغوب فيها ويصعب السيطرة عليها، مما يهدد الاستقرار الإقليمي ويمتد أثره إلى السلم والأمن الدوليين، خاصة وأن المنطقة تعج بالمشاكل وفي حالة غليان ولا تحتمل المزيد.
أما تشكيل إدارة مدنية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، فهو خيار غير عملي ولن يكون ذا جدوى في ظل استمرار القتال والحصار الذي يفرضه الجيش على هذه المناطق، وتفوقه الواضح عبر سلاح الطيران، والوضع الهجومي الذي تتخذه القوات الحكومية والقوات المتحالفة معها، ومن البديهي ألا تقبل الحكومة بوجود سلطة داخل الدولة تنازعها شرعيتها، وبالتالي ستكون هذه المناطق أهدافًا مشروعة لنيران أسلحتها المختلفة.
وهكذا يبدو المشهد السوداني قاتمًا، وتزداد تعقيداته يومًا بعد يوم، وتتخذ الأزمة فيه شكل مباراة صفرية تتضاءل فيها فرص التسوية السياسية والحل السلمي، ويبرز بقوة خيار الحسم العسكري على الأرض.